ادب وشعر

الجمعة - 16 فبراير 2024 - الساعة 02:20 م بتوقيت اليمن ،،،

كتب د. الخضر حنشل

استيقظ هو والعصافير من مرقدهم على صوت المؤذن وهو يدعو الناس إلى الصلاة، وترك النوم، غادر المسجد مع نسيم الصباح الباكر حاملاً عدته (السطل والمجرفة) ومضى ميمماً وجهه شطر رصيف الأسفلت المحاذي لساحل أبين (بحر العرب).. سار وحيداً مسرعاً تاركاً وراءه الحي، والشارع والناس وكان عليه أن يقطع مسافة طويلة حتى يصل إلى الرصيف.. أخذ يخطو وفي كل مرة يتحسس عدة العمل محدثاً إياها:" ياعدتي المفضلة هي بنا إلى الرصيف هناك سأقضي بكما على لون الحداد الذي يغشى روحي، وبكما سأقبر وحدتي وفاقتي.. الآن أدركت بعد أن زحف الشيب على رأسي، واكتسحت الهموم صدري أنه لا فائدة من استجداء التجار، وأرباب العمل لقد مر زمن ليس يسيراً وأنا أتمرغ أمام محلاتهم ولاجدوى.. كانوا يديرون ظهورهم نحوني غير عابئين بي ناصبين أمامي حائطاً عالياً من الشروط والطلبات".
ولسبب ما تجلت لعينيه صورة حزام الوغد التاجر الذي نهره بعنف من أمام محله التجاري.. (أبعد من هنا فلسنا في حاجتك أذهب بعيداً عن المحل لا حاجة بنا إلى عمالة).
سعيد رجل معدم لا يملك من حطام الدنيا غير تركة ثقيلة ينوء كاهله بحملها ورثها بعد موت والده منذ سنوات أم طاعنة في السن طريحة الفراش وأربع بناتها. وجد نفسه في معترك الحياة بلا دليل ولا مرشد مازال عازباً مع أنه قد تخطى الأربعين..
كلما واصل سيره التفت نحو مدينته الساحلية وخيل إليه أنها تغوص في بحيرة من الوحل والملح.. وفي هذه الأثناء تراءى لعينيه مجموعة من العمال يحملون أمتعتهم فقال في سره:" هاهم ذاهبون إلى سوق الحراج في الشارع الغربي للمدينة سيمر النهار وهم قاعدون على الأريكة يهرعون في تزاحم إذا رأوا شخصاً فيمطروه بالأسئلة أتريد معلم أم عامل، أم سباك.. الخ. تظل أبصارهم شاخصة تترقب المجهول غير عابئة بحرارة الشمس التي رسمت على وجوههم أغواراً وأخاديد يصعب ردمها.. كنا معاً في خضم المجهول نجلس القرفصاء، وعيوننا يمزقها الترقب والبؤس يعبر بنا الزمن في امتداده القصري وسواعدنا معطلة خاوية.. لقد سئمت ذلك الانتظار وقررت اليوم أن أذهب إلى العمل دون أن أكون تحت رحمة أرباب العمل فمنذ عودتي القسرية من الغربة، وأنا تحت رحمتهم، اليوم تحررت وقررت أن أبدأ في العمل الحر الذي أوله أجرة وآخره أجر.
وجد نفسه على مشارف الرصيف المطل على بحر العرب. مد بصره نحو الشاطئ فرأى دبابة مهترئة جاثمة في سفح الشاطئ تعبث بها الأمواج، وبالقرب منها تنتشر خراطيش القذائف واطارات ممزقة واشلاء سيارات محترقة مبعثرة، بدت الصحراء عطشى تتلظى تحت أشعة الشمس الحارقة أشجارها خاوية يكسوها الشوك ورائحة رمالها معطرة بالدم.
وضع عدته على الأرض وقرر أن يردم بجهده المتواضع الحفر المنتشرة على سطح رصيف الخط الدولي، ويبعد الأكوام الرملية الزاحفة صوب جوانب الرصيف.
من المؤكد أنه قد وضع في حسبانه قيمة وأهمية هذا العمل الجبار.. وقدر أن الرصيف مع قسوته وخشونته فهو موطئ مناسب للمسافرين والعائدين.. أخذ يباشر عمله بتفان وإخلاص ينحني ويملأ سطله بالتراب ويحمله على كتفه ويصبه في حفرة من الحفر وهكذا.. ظل طوال النهار يوزع جهده المتواضع بين ردم الحفر وإزاحة الأكوام الرملية عن الرصيف كلما زحفت الرمال نحو الرصيف هرع نحوها وكشحها عنه فما أن تهب الرياح حتى تنسل الرمال نحو الرصيف كالأفعى فيبادرها بما يملك من طاقة.
تلقى وابل من التحايا الحارة، والإعجاب من قبل المارة الرائحين والغادين، وقبض ما تيسر له من نقود، وشكر الجميع دون تكلف، ودعى لهم ببلوغ المرام والسلامة من كل مكروه.
بدأت رياح الأصيل تتحرك فقلت حرارة الشمس وقرر سعيد أن يأخذ قسطاً من الراحة تحت ظل السحابة المتبخترة التي تركت فوق راسه ظلاً جميلاً مثل له فرصة سانحة للتخلص ولو لوقت قصيرة من سعير الصحراء، وعلى مقربة منه ظهر ثعلب يقفز في الهواء برشاقة، وخفه، وكأن لسان حاله يقول: انظر نحوي ألم تر ما عندي من خير وفير على ظهر هذه الصحراء فئران دسمة، وسحالي،وجيف، وخنافس ما لذ وطاب.
وفي هذه الأثناء علت أصوات السيارات الفارهة، كانت تسابق الريح، وتلتهم الطريق غير مكترثة بالحفر والرمال تحيط بها الدراجات النارية والمصفحات الحربية، والمدرعات نهض سعيد مذعوراً من مجلسه وبدأ أشعث أغبر رأسه ملطخة بالرمل وثيابه غبراء كالميت الذي زحزح عن قبره، وجد نفسه فجاءة في قبضة العسكر وهم يحيطون به من كل مكان وأسلحتهم مصوبة نحوه، وسواعدهم تشده بعنف واستهتار.
قال وهو يمسح العرق عن جبينه: أنا عامل ..عامل فقط.. أطمر الحفر لوجه الله.
فرد الضابط، ولكن لابد من التحقيق معك،ومعرفة شخصيتك، وما الذي جاء بك إلى هذا الرصيف؟
- ماذا فعلت أنا لم أرتكب أي فعل أجرامي.
- موضوعك خطير،ولابد من اطلاع الفندم عليه.
أخذوا يجروه كخروف حان ذبحه، كان الخوف يملأ قلبه، ويهز أركان جسده.. كانت وجوههم منتقبة لا يبدو منها غير عيون تقدح شرراً كرجال المافيا يشهرون الأسلحة بين الفينة والأخرى مضوا به صوب سيارة الفندم التي تقع في مقدمة الموكب تفصلهم عنها عشرات المدرعات والأطقم والمصفحات..
- سيادة الفندم هذا هو الشخص الذي كان واقفاً على قارعة الطريق.
- نزع الفندم نظارته السوداء فنظر نحو سعيد شزراً فباشره بالقول:
- أنت تتبع أي جهة ... هل أنت عميل أعترف أحسن لك؟
رفع سعيد رأسه فنظر مالياً في وجه الفندم فصاح بصوت متهدج:
- خنفس البنشري.. خنفس البنشري ألم تعرفني.. أنا سعيد البنشري زميلك الذي علمك كيف تفك الإطارات وتلحمها، وتتفاقد الزيت.. وأردف يصرخ فرحاً: هل تذكرني أكيد تذكرني.. ليالي الغربة لا تنتسئ... بهت الفندم من فداحة المفاجأة حتى سقطت نظارته السوداء، وامتقع وجهه فتلعثم وأخذ يرفع زجاج نافذة السيارة بعصبية وارتباك فنهر العسكر بصوت مرعب: هي ابعدوا هذا المجنون من هنا أنه مجنون.. مجنون أتركوه.. أتركوه
تحرك الموكب في سرعة البرق.. وأخذت نظرات سعيد تطاردهم في حسرة وألم ضارباً أخماساً في أسداس وهو يتمتم: كل هذا الجحود يحصل منك أيها الزري خنفس البنشري نسيت الخمس سنوات التي قضيناها في جدة. نسيت من علمك حرفة البنشرة.. نسيت الديون التي مازالت في ذمتك يا فندم خنفس.. ومضى يقول في نفسه: أيعقل أن يكون قد نسيني أم خدعه البصر وزاغ عني.