آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-09:54م

كتابات


هل تفسدُ الشرعيةُ الانتقاليَ أم ينَقِّي الانتقاليُ الشرعيةَ؟

هل تفسدُ الشرعيةُ الانتقاليَ أم ينَقِّي الانتقاليُ الشرعيةَ؟

الأربعاء - 25 أكتوبر 2023 - 10:01 ص بتوقيت عدن

- كتب/ عيدروس النقيب:


إنهُ سؤالٌ افتراضيٌ يقوم على ما يقوله الإعلام المعبر عن طرفي الشراكة السياسية في ظل مجلس الرئاسة وحكومة المناصفة الذين يتقاسمهما الجنوب والشمال من خلال النصف الشرعي الشمالي، والمجلس الانتقالي الجنوبي وشركائه، فمعظم أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي، وهم غالبية أبناء الجنوب، يراهنون على أن المجلس هو العدو الأول للفساد والمفسدين، وأنه من سينقذ البلاد من جائحة الفساد كخطوة مهمة على طريق تحرير الجنوب واستعادة دولته، ومع ذلك هناك من يتهم بعض قيادات وكوادر المجلس الانتقالي بالفساد، ولكن أحداً لم يقدم برهاناً على ذلك، أما الشرعية فنادراً ما نسمع من مؤسساتها الإعلامية بل وقادتها من يتهمها بالنزاهة، بل لقد صار الحديث عن انتشار ظاهرة الفساد في الوزارات وبقية مؤسسات الحكومة حديثاً اعتيادياً ويومياً كالحديث عن السُحُب ظهيرة يومٍ صيفيٍ ماطر.
ظاهرة الفساد في اليمن ليست جديدةً ولا طارئة، ولا ترتبط بفترةٍ زمنيةٍ معينة، بل إنها حالةٌ مزمنة تعود إلى زمن ما قبل ثورة سبتمبر 1962م وإسقاط النظام الأمامي لآل حميد الدين، بيد إن هذه الظاهرة قد انتشرت انتشاراً سرطانياً في عهد الجمهورية وخصوصاً مع نهاية السبعينات وطوال نهاية القرن الماضي وبداية القرن الجديد وما نعيشه اليوم ليس سوى امتدادٍ لعقودٍ طويلةٍ من آفة الفساد الممنهج.
لقد تحول الفساد في العقود الأربعة الأخيرة من ظاهرة مرضية وبائية مزمنة إلى سياسة ممنهجة استخدمها النظام لشراء الولاءات والابتزازات السياسية والاقتصادية والمالية بل ومحاربة القوى المعارضة والعناصر النزيهة الرافضة لسياساته.
وبالعكس فإن ظاهرة الفساد في الجنوب إلى ما قبل مايو 1990م كانت شبهَ منعدمةٍ إن لم نقل إنها كانت منعدمةً كلياً، ولا يعود ذلك إلى إن الناس في الجنوب كانوا من فئة الملائكة، ولكن لأن السياسة الجنوبية في إدارة البلاد كانت تقوم على مبدأ الثواب والعقاب وفرض النظام والقانون بصرامةٍ تصل غالباً حد القسوة على الجميع دونما مواربةٍ أو تمييز، أما بعد 22 مايو فقد تسلَّل الفساد تدريجياً ليتخذ شكل الطوفان الذي اكتسح كل مفاصل الدولة وأنسجة المجتمع بعد حرب 1994م، وسيغدو سياسة منهاجية هي أشبه بالمعيار الرئيسي لاختيار الأسماء التي سيدير أصحابها المرافق والمؤسسات والمكاتب والإجهزة الحكومية وفي تسيير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عموماً.
وعلى مدى ما يقارب العقود الثلاثة برزت كفاءات جنوبية لا يمكن إنكار تفوقها في الغوص في بحيرة الفساد والتعملق في عوالمة بسرعةٍ فائقةٍ لا يمكن تصورها، مثل ذلك المحافظ الذي باع كل ناقلات ومركبات وآليات مؤسسات البناء والنقل والأشغال ومؤسسات التجارة، باعها على إنها خردوات واشترتها شركاته، ليحولها إلى مليارات في أرصدته البنكية، ومثله العشرات من المسؤولين الجنوبيين، مما يبرهن على إن الفساد لا يرتبط بقطاع جغرافي أو ديمغرافي أو مسميات اجتماعية معينة بل بنوع النظام السياسي الحاكم ومبادئه المجتمعية والقانونية وقبل كل شيء قيمه ومعاييره الأخلاقية.
وبالعودة إلى العنوان الرئيسي لموضوعنا، فإن قضية الموقف من الفساد تبقى المعيار الرئيسي لمدى قدرة التشكيلة الحكومية والسياسية التي تدير البلاد على تحقيق ولو الجزء اليسير مما تلهج به من وعود وما تتغنى به من شعارات وخطابات، والبلاد المقصودة هنا هي الجنوب بمحافظاته ومديرياته، وبموارده وثرواته ومصالح أبنائه، لأن الشمال بعد أن أضحى جزءًا من أملاك الحوثي صار له نظامه وقيمه وطرائق عيش تخصُّ أبناءه وحكامهم، وحتى المديريات القليلة في تعز ومأرب والحديدة لا سلطة مباشرة لمجلس القيادة الرئاسي ولا لمجلس الوزراء عليها إلا من خلال الأحزاب المهيمنة عليها وممثليها في مجلس الرئاسة والحكومة.
الفساد يمثل تحدياً حقيقياً بالنسبة للمجلس الانتقالي الجنوبي، ويكمن التحدي في نقطتين: الأولى لأنه الجسم السياسي الجديد الذي يفترض أنه لم يتلوث بموبقات سلطات صنعاء المختلفة، والثانية باعتباره حركة تحررية متقدمة في معركة استعادة الدولة الجنوبية المدنية، دولة النظام والقانون والدستور والمؤسسات المدنية الحديثة، التي لا يمكن أن يستقيم عملها إلا بعيداً عن الفساد وعواقبه التدميرية، ولا يمكن تصور أن تتعايش شعارات الحرية والاستقلال وبناء الدولة المدنية الديمقراطية المرتقبة مع الفساد وموبقاته المقيتة في آنٍ واحد.
ومبدئياً قد لا تكون مهمة المجلس الانتقالي الجنوبي هي تنقية المؤسسة (الشرعية) الحاكمة من الفساد الموروث منذ أزمنة الحكم التركي في اليمن، لكن مهمته الرئيسية في هذا السياق هي حماية مؤسساته وكوادره ومسيرته السياسية والوطنية من عدوى الفساد التي هي أسرع انتشاراً من أي مرض وبائي كالتيفويد والكوليرا وأمراض الحميات وأخطر وأشد فتكاً من السرطان.
ولكم تمنيت أن يقوم المجلس الانتقالي الجنوبي بإصدار لائحة معايير أخلاقية ومهنية وقانونية، لشغل الوظيفة العامة في مؤسسات المجلس نفسه أو في أجهزة الحكومة ومؤسساتها، لتحدد بالضبط القيم والشروط الأخلاقية والمهنية والوطنية لمن يشغل تلك الوظائف وتحدد إجراءات استبعاد من لا تنطبق عليه تلك المعايير، فشروط الدولة الجديدة لا ينبغي أن تقوم على معايير دولة الغزو والاحتلال الممقوته والدخيلة على المجتمع الجنوبي، حتى وإن استوطنت قرابة ثلاثة عقود هي عمر احتلال الجنوب من قبل نظام صنعاء.