كتابات

السبت - 24 فبراير 2024 - الساعة 12:00 ص بتوقيت اليمن ،،،

كتب/ عيدروس النقيب:


كانت اتفاقية الثلاثين من نوفمبر 1989م الموقعة بين الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وأمين عام الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جنوب اليمن (حينها) علي سالم البيض إيذاناً بمرحلةٍ جديدة في العلاقة بين الدولتين والشعبين والبلدين، لا أحد كان يتوقع مسارات تلك المرحلة وما ستنتجه من معادلات سياسية جديدة واستقطابات وتداعيات جديدة على مختَلَف الأصعدة والميادين، والتصور الوحيد الذي كان قد ارتسم في مخيلة القيادات السياسية الجنوبية تجسد في محورين:
الأول التخلص من قيود الأيديولوجيا الاشتراكية التي كانت تقيد الحرية الاقتصادية والتنوع السياسي، ومن ثم إحداث انفتاح اقتصادي يسمح بنمو القطاعات الاقتصادية المتنافسة ثم بالنهوض الاقتصادي المضطرد لكل أبناء الدولة الجديدة (المفترضة)، كما رسمته مخيلة الكثيرين من القادة الجنوبيين، والثاني قيام نظام سياسي ديمقراطي تعددي يسمح بإحداث حراك سياسي يمكن أن يمهد الطريق لبناء دولة المؤسسات الدستورية والقانونية التي يمكن أن تؤدي إلى انتقال السلطة سلمياً من كيان سياسي إلى آخر عن طريق التنافس السياسي عبر صندوق الاقتراع.
ولا أدري إن كان قادة الجنوب قد استنتجوا إلى ماذا يرمي الطرف الآخر من هذه المعادلة الجديدة وما إذا كانوا قد وضعوا بالاعتبار الإجراءات الوقائية فيما لو تعثرت المحاولة لأي سبب من الأسباب، الموضوعية أو الذاتية.
كما لست أدري إن كان أحد قادة أو كوادر الجنوب قد سأل نفسه أو سأل زملاءه في القيادة صاحبة هذا التصور السؤال التالي:
طالما ونحن ذاهبون نحو الانفتاح الاقتصادي واقتصاد السوق، ونحو النظام الديمقراطي التعددي، لماذا لا نبدأ بتطبيق هاتين التجربتين على صعيد الجنوب، لنذهب إلى وحدة الدولتين ونحن جاهزون لمثل هذه الممارسة الجديدة على مجتمعنا وتجربتنا السياسية؟
وما زلت أتذكر تلك الحملة الشعواء التي شُنَّت على الشهيد جار الله عمر، عضو المكتب السياسي حينها، عندما تقدم بورقة تقترح الانتقال إلى نظام التعددية الحزبية في الجنوب، بعد ما جرى في يناير 1986م.
أما على الطرف الآخر -كما أشرت- فلا أحد كان يعلم ماذا يدور في رؤوس القادة السياسيين، رغم ما بدر من اعترض وانقسام بين الطبقة السياسية الشمالية حول الموقف من وحدة البلدين والدولتين، لكن المؤكد أن القرار كان يتمركز بيد شخص الرئيس المعروف بنزعته إلى التسلط والهيمنة على صناعة القرار السياسي بجانب ميله إلى خوض المغامرات التي كان غالباً ما يخرج منها فائزاً، وهذا ما حصل حينما ذهب إلى عدن للضغط على القيادة الجنوبية لتوقيع اتفاق 30 نوفمبر الذي مهد الطريق لإعلان 22 مايو وحصول ما حصل بعد ذلك.
لست بصدد توجيه الاتهام أو النقد واللوم لأحد كما لن أتحدث عن المآلات التي مضت إليها تجربة الشراكة غير السوية وغير المدروسة، فقد كانت النتيجة المأساوية التي عاشها الجنوب بفعل غياب الشروط الموضوعية والذاتية لنجاح تلك الشراكة برهاناً كافياً على أن محاولة توحيد دولتين بنظامين مختلفين وتاريخين مختلفين وسياستين وتشريعين وثقافتين واقتصادين مختلفين هو أشبه بخلط الماء بالزيت في قيادة المحركات ووسائل النقل التقليدية.
وكان كاتب هذه السطور قد تناول أسباب فشل تلك التجربة في كتاب "القضية الجنوبية وإشكالية الهوية"1
لقد سقطت شراكة الأمس لأن طرفيها لم يكونا متناغمين في أي عامل من عوامل بنائها ومحاولة استبقائها، وقد صارت نهايتها معروفة للجميع.
ولا ينبغي أن يفوت علينا ونحن نتعرض لتجربة الشراكات الشمالية الجنوبية أن نشير إلى أن نظام 7/7 ظل يقدم نفسه على إنه قائم أيضاً على الشراكة (الشمالية-الجنوبية) وظلوا يستدلون على هذه الشراكة بوجود نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقرابة نصف الوزراء من أبناء الجنوب، لكن هذا الادعاء لم يصمد طويلًا فقط كانت تجربة تولي الرئيس عبد ربه منصور هادي لمنصب رئيس الجمهورية، ولمدة سنتين انتقاليتين فقط، كانت كافية للبرهان إلى أن النخبة السياسية الشمالية لا يمكن أن تتحمل رئيساً يكون من غير الهضبة، ناهيك عن أن يكون جنوبياً، فما لبثت، هذه النخبة إن انقلبت على الرئيس دون أن تتركه ينجز المهمة الانتقالية ولو بتمديد فترته لسنة إضافية واحدة وكان ما كان في سبتمبر 2014 وما تلى ذلك من انقلاب وحرب ما تزال قائمة حتى اليوم، وهو ما سيكون لنا معه وقفة قادمة إن شاء الله.
اليوم يعاد بناء الشراكة بعد كل التجربة المريرة التي عاشها الجنوبيون على مدى ثلاثة عقود من الغزو والاجتياح وثلث قرن من بدء الشراكة البائسة.
شراكة الأمس بنيت على حسن النوايا والخطاب السياسسي الناعم من الطرفين، الغادر والمغدور به، المنقلِب والمنقَلَب عليه، السالب والمسلوب والناهب والمنهوب
وشراكة اليوم تعاد بنفس الشركاء وبنفس الشخوص وورثتهم، وبنفس النوايا، طرف يدخل بحسن النية ونقاء المقاصد وتلقائية الخطاب، وطرف آخر يدخل بخطاب ناعم يناقض النوايا غير المعلنة، التي تكشفها الممارسات السياسية وطريقة التعامل مع الشعب الجنوبي وأرضه وأهله وموارده.
شراكة الأمس أقيمت دون سابق تجربة، وبنيت على المجازفة والعشوائية وعدم وضع احتمال للمخاطر، وشراكة اليوم هي إعادة صياغة لشراكة الأمس لكن بعد تجربة مرة تعرض لها الجنوبيون، ولم يتعلموا منها بأن شركاءهم اليوم هم نفس شركاء الأمس وأن النوايا هي نفس النوايا والخطط والاستراتيجيات بل والتكتيكات هي نفس خطط واستراتيجيات وتكتيكات شراكة وشركاء الأمس.
شراكة الأمس وضعت ووقعت بدون أية ضمانات أو ما يسميه الحقوقيون بــ"الشروط الجزائية"، وشراكة اليوم يعاد بناءها بدون أي ضمانات أو شروط جزائية، ولو من باب الاحتياط لعدم تكرار ما تعرضت له شراكة الأمس.
الفارق الوحيد بين الشراكتين أن الطرف الجنوبي قد دخل هذه المرة قوياً مسلحاً بالعديد من الأوراق وعوامل صناعة الحدث أو إيقاف صناعته، لكن لم يتبين ما إذا كان الطرف الجنوبي يمتلك القدرة على استخدام هذه الأوراق أم لا، ومن هذا الفارق يأتي الفارق الثاني وهو أن الشريك الشمالي بعكس الأمس، جاء هذه المرة إلى الجنوب هارباً، مطارداً من أرضه، وجاء ليحكم الجنوب دون حتى المديريات الشمالية القليلة (المحررة).
إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة أمام الجنوبيين شعباً وقيادةً هو:
ما هي الدروس التي تعلمناها من تجربة سنوات الشراكة القليلة بعيد العام 1990م؟ وكيف يمكننا التصرف للحيلولة دون تكرار تجربة الغزو الذي تعرض له الجنوب مرتين على أيدي الشركاء أنفسهم، حتى لو جاء هذا التكرار بالوسائل الناعمة؟ . . . . ذلك ما يمكن أن نتناوله في الوقفة القادمة بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. القضية الجنوبية وإشكالية الهوية، د. عيدروس نصر ناصر، دار يسطرون، القاهرة، 2023م ، ص 18-22.