عربي ودولي

الجمعة - 15 مارس 2019 - الساعة 07:28 م بتوقيت اليمن ،،،

(تحديث نت خاص)

أراضيها كنوزا نادرة، من الحفريات إلى الأحجار الكريمة الوردية البراقة. لكن سكانها عاشوا في عزلة عن الناس لمئات السنين، يمارسون حياتهم في هدوء ويتوارون عن الأنظار.

أو هكذا كان الحال، حتى عام 1959، حين قررت الطبيبة النرويجية لويس جيلك-آل، التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 28 عاما، تأسيس عيادة في هذه المنطقة. وما إن بدأت في معاينة المرضى، حتى لاحظت عليهم أعراضا غريبة.

إذ لا يكاد يمر يوم إلا وترى طفلا لا يتجاوز عامين مصابا بحروق شديدة، كان من بينهم فتاة شوهت الحروق ملامحها تماما، وتوفي الكثير منهم متأثرين بالجراح. وكثيرا ما كانت تلاحظ أن الجروح مغطاة بشبكة من الندوب الوردية التي تراكمت على مدى سنوات منذ الإصابة بالحروق.

لكن ما أثار شكوك جيليك-آل هو الحوادث المتكررة التي كان يتعرض لها صغار السن في القبيلة، مثل الغرق. وعندما حاولت التقصي عن الأسباب، شعرت بأن سكان القبيلة يتوجسون منها خيفة، وامتنع أقارب الأطفال عن الإجابة عن استفسارتها.

وفي النهاية اكتشفت جيلك- آل أن هؤلاء المرضى تداهمهم نوبات تشنج شديدة تسقطهم أرضا، وأحيانا يصابون بحروق جراء سقوطهم في المواقد المفتوحة التي يستخدمها السكان للطهي، وأحيانا أخرى يكون مصيرهم الغرق في النهر. ويطلق سكان القبيلة على هذا المرض اسم "كيفافا" (أو الموت الصغير باللغة السواحلية)، والذي يُعرف أيضا باسم "متلازمة الإيماء".

لكن ما زاد الأمر غموضا أن الأطفال الذين تعتريهم نوبات التشنج كانوا يعانون من تأخر في النمو البدني والعقلي، ويقومون بحركات وتصرفات غريبة، مثل طريقة المشي غير المألوفة وجمود الملامح، والأغرب كان تكرار الإيماء بالرأس، فكانوا يغلقون أعينهم ويحنون رؤوسهم على صدورهم مرات عديدة. وعادة ما يلازمهم هذا المرض لسنوات وينتهي بموت مبكر.

لكن بخلاف قبيلة وابوغورو، لم يكن المرض معروفا في سائر أرجاء تنزانيا، حتى في القبائل المجاورة. واكتُشفت إصابات أخرى بذلك المرض منذ ذلك الحين في مناطق معزولة في شرق أفريقيا، من جنوب السودان إلى شمالي أوغندا، حيث أودى المرض بحياة الآلاف. وكان المرض يظهر في كل منطقة من هذه المناطق بلا مقدمات.

ولا أحد يعرف حتى هذه اللحظة أسباب هذا المرض، إذ كان يُعتقد سابقا أنه نوع نادر وغامض من الصرع، لكن أبحاثا جديدة أشارت إلى أنه قد يكون مرض تنكسي في الجهاز العصبي، يجمع بين نوبات الصرع وبين بعض أعراض داء باركنسون وألزهايمر. وفي النهاية، يلقى المرضى حتفهم جراء مضاعفات نوبات التشنجات، مثل تلف خلايا الدماغ والحوادث أو الأمراض العقلية والإهمال.

وقد توصل بحث أجري عام 2018 إلى أول مفتاح لحل لغز هذا المرض، إذ لاحظ الباحثون أن أدمغة المراهقين المصابين بالمرض تشبه إلى حد كبير أدمغة المسنين المصابين بألزهايمر وداء باركنسون. ويقول رئيس فريق الباحثين، مايكل بولانين، المتخصص في علم الأمراض بجامعة تورنتو: "لاحظنا وجود إصابة في خلايا الدماغ، ورأينا أننا إذا تمكننا من تحديد نوع الإصابة قد نصل إلى جذور المرض".

وهذا التشابه بين أعراض متلازمة الإيماء وأعراض أمراض أخرى، يزيد من أهمية هذه الأبحاث، إذ قد يسهم في الكشف عن العوامل التي تؤدي إلى زيادة مخاطر الإصابة بالاضطرابات التي طالما حيرت العلماء، مثل ألزهايمر.

إذن، ما الذي نعرفه عن المرض حتى الآن؟

يربط سكان القبيلة هذا المرض بحلم مزعج، يرون فيه أنهم يتحممون بالماء ويصبون المياه على أكتافهم، ثم يفتحون أعينهم فإذا المياه مخضبة بالدماء.

لكن كل ما نعرفه حتى الآن هو أن هذا المرض ليس وراثيا. ويقول بيتر سبنسر، عالم أعصاب بمعهد أوريغون لعلوم الصحة المهنية: "إن هذا المرض يظهر ويختفي، فقد ظهر في شمالي أوغندا عام 1997، وسجلت أعلى معدلات الإصابة به في السنوات الخمس الأولى من الألفية الثالثة ثم اختفى. لذا لا يمكن أن يوصف بأنه اضطراب وراثي".

وتجرى أبحاث عن مرض محير آخر، انتشر بين شعب الشامورو، السكان الأصليين لجزيرة غوام التي تقع في ركن قصي من المحيط الهادئ. وتعود بداية ظهور هذا المرض إلى عام 1904 على الأقل. ويطلق عليه العلماء متلازمة الخرف والشلل الرعاش والتصلب الجانبي الضموري بغرب المحيط الهادئ.

وقد حصد هذا المرض الكثير من الأرواح. ويسبب أعراضا تتطابق مع أعراض متلازمة الإيماء. ويقول سبنسر: "إن هذا المرض اختفى تماما من جزيرة غوام، ومن الواضح أن مصدره بيئي".