آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-09:54م

ادب وشعر


صراع الأجناس الأدبية

صراع الأجناس الأدبية

الخميس - 18 أكتوبر 2018 - 09:38 م بتوقيت عدن

- كتب/ بدر العرابي


قد يبدو هذا العنوان مباغتا ،أو يبرز مفارقة وانزياحا عن الضوابط النقدية والتنظيرية في تاريخ الأدب والنقد الأدبي ،لاعتماده التركيب المجازي ،لكننا سنعتمده العرابي*
افتراضا ،كون الموضوع سيأخذنا لعوالم ماقبل نشأة الأدب ،بل وسيضعنا أمام أسئلة فلسفية ،يصعب الإجابة عليها من خلال البحث في التراث النقدي والتنظيري والدراسات والأبحاث المعاصرة.

ومن هذه الأسئلة:(أيهما أسبق في النشأة :(الشعر /القصيدة ،أم النثر /السردالملحمة،القصة،الدراما؟ ومدى إمكانية نشأتهما في وقت واحد ودفعة واحدة ،من عدمه ،وما ملابسات نشأتهما ؟وماهي الأشكال البدائية لكل جنس وتشكلاتهما الممتدة عبر الزمن؟حتى بروز وانقداح الوعي الإنساني بهما ،في هيئة نضوجهما الأخيرة، عند انقداح الممارسة الإنسانية لهما باتساع ووعي نقدي ورواية وشيوع ،كما جاءت القصيدة العربية عليه من شكل عند امرى القيس ،وكما جاءت الملحمة والمسرحية والدراما والشعر الغنائي عند الإغريق في عهد أفلاطون وأرسطو وماقبلهما ،ثم قد يملي علينا الحدس نتبعه لنتحرى أو نتكهن عن طريق المجاز :هل وجد صراع أجناسي خفي في عالم الأجناس بين (الشعر والملحمة) أي القصيدة والقصة ؟وهل كان التنافس والصراع يبلغ أشده لأن يصل للتفكير في سلب أحدهما السيادة من الآخر ،وتحويله لتابع أو أداة للحلول والحضور ،على حساب تقزيم الآخر، وضم جمهوره لجمهور الآخر؟ ،أو بعبارة أخرى هل توخى جنس منهما الهيمنة على المتلقين ،وسحب البساط على الآخر؟) .
وإذا ما حاولنا اعتماد الحدس في الإجابة على السؤال :(أيهما أسبق) ؟فلا نستطيع أن نطلق أحكاما كلية ،لأن ذلك يتوقف على السياق الثقافي لانقداحات الأطوار البدائية للشكل الأدبي عند أمة بعينها، بينما الأدب ملكة إنسانية نشأت مع الإنسان حيثما وجد، كحاجة روحية وجمالية ،دون تفاوت بين الأمم أو أسبقية، سوى في اللغة ،فإذا ما بدت الطقوس الدينية والفلكلورية في الثقافة اليونانية ،مصدرا ،بل تقليدا راسخا في شكل التراجيديا والكوميديا ،والشعر الغنائي _أمكننا أن نفترضها المكون والماخض الأول للأدب اليوناني بأشكاله الثلاثة ،وفي المقابل فأن الطقوس الدينية والروحية والاجتماعية والفلكلورية ،أيضا يمكن افتراضها مصدرا للقصيدة العربية ،والأشكال الأدبية الأخرى التي همش ظهورها طغيان الشعر /القصيدة العربية ردحا من الزمن .

وإذا كانت القصيدة العربية تمادت في طغيانها على حساب المرويات السردية،منذ نشأتها ،وفيما بعد _فأن الملحمة/القصة والمسرحية في الثقافة اليونانية ،تعاضدتا معا في اضطهاد الشعر/القصيدة ،ابتداء من سحب جمهوره وضمه لهما عبر المسرح ، بتحويله لأداة خادمة ،مثله مثل أي عنصر بنيوي ،وجعلتاه يحملهما للجمهور ،عبر استخدامه الشكلي ،كإطار للمحاكاة على خشبة المسرح ،إذا ما علمنا أن الملحمة والتراجيديا والكوميديا ،كانت تؤدى بشكل شعري ،وانتشرت وشاعت في أوروبا كافة بالشكل اليوناني مع اختلاف اللغة فقط ،وظلت كذلك حتى القرن السابع والثامن عشر .وهنا تبدو غلبة جنس (الملحمة) في صراعها مع القصيدة، كجنس مقابل، ردحا من الزمن ،حتى شعرت بوجود ما يؤهلها للهيمنة على المشهد ،في تحولها لرواية بلغة سردية خاصة بها ،راهنا.
وفي المقابل طغت القصيدة العربية في الاستئثار بالمشهد ،حاجبة المرويات السردية في لجة من الغياب منذ نشأتها حتى منتصف القرن التاسع عشر ،رغم بعض المقاومة من قبل أشكال سردية بدائية ك(المقامة )إلا أن فن المقامة وإن برز ،لم يستطع أن يحرز الغلبة ،بل لم يستطع استقطاب الجمهور ،وظل مغمورا،فيما ظل الشعر هو المهيمن على المشهد .

وإذا ما تبعنا الحدس ببعض التوغل لاستكناه أسبقية جنس على جنس ،من حيث النشأة ،فأن ثمة مؤشرات يمكن قولبتها عبر الحدس ،تشير لأسبقية وسيادة الشعر/القصيدة على الملحمة والسرد بأشكاله التأسيسية ،ومن هذه المؤشرات ،عدم بزوغ الملحمة/المسرحية/الدراما ،كفنون مستقلة ،إذ استعانت في مخاضاتها، بالطاقة التأثيرية الناضجة للشعر/القصيدة ،في تقديم نفسها للجمهور ،عبر قالبه الإيقاعي المؤثر والصاخب والساحر ،رغبة في تمرير غاياتها ووظائفها من جهة ،ومعتمدة سياسة الإقصاء والإلغاء ،ونهب الجمهور من الطبيعة التواصلية للشعر/القصيدة ،من جهة أخرى ،ورويدا رويدا ،نجحت الملحمة والمسرحية في سحب البساط من بين يدي القصيدة واستأثرت بالجمهور ،حتى آنست وسيلتها ذات الطابع السردي ،لتغدو رواية بزخم جماهيري ،مايزال يسرق الجمهور على الشعر إلى عصرنا الراهن .

وإذا ما أطلقنا العنان للحدس ،فأنه يمكن تخمين أن الشعر هو الأسبق في النشأة عن طريق ضغط طقوس اجتماعية وفلكلورية منبثقة من حاجة الإنسان المبكرة ،لتأطير لغة الكلام المخيلة في قالب إيقاعي روحاني وجمالي ،يردده عبر صدحات ،يمخضها ضغط الإحساس بالحزن والسعادة ،والترويح عن النفس ومحاكاة الحركة الطبيعية للظواهر الطبيعية وأصواتها ومدخلات الحياة ،ثم بدافع التنويم في المهد ،وفي طقوس الأعراس والحروب ...إلخ.
ومن جهة أخرى فأن اقتحام الملحمة بمدخلاتها العفوية المتفرقة، ومن دون وعي تأسيسي_ للقصيدة ،بدا بالتدريج ،عن طريق توغل الخرافات والأخبار الأسطورية والفلكلورية العشوائية ، داخل رقعة القصيدة ،وتواتر ذلك بتوسع وامتداد ،حتى غدت القصيدة ليس إلا غلافا ،بينما سيطر مضمون الحكي والسرد على داخلها واستعمر معظم مساحتها ،لتنبثق ملحمة لتمجيد الأبطال ،في إطار شعري ،أو مبكاة/تراجيديا ،أو نقيضة/كوميديا .
ونستشف خلفية حدسية من ذلك مفادها أن الملحمة ثم القصة والرواية ،بثقت من (ركبة) الشعر . (هذا فيما يخص الصراع الأجناسي في الأدب الإغريقي خاصة والأوربي عامة .

أما الصراع الأجناسي في الأدب العربي ،كما أسلفنا ، وإن كان ليس في أوجه_ فقد رشح القصيدة للهيمنة على التواصل ،حتى غدا الشعر /القصيدة ،الهاجس الإنساني اليومي للعربي في حله وترحاله واستقراره وعيشه اليومي ،وغدا أبعد من ذلك ،كصيغة نصية يستدل بها في شئون الحياة كافة ،حتى تخطفت ألقه الرواية والقصة في العصر الراهن .
وإذا كان (الشعر ديوان العرب) كما أطلق عليه قديما ،فأن (المسرحية ديوان الإغريق خاصة وأوروبا عامة) .

ولعله من المنصف إن اعتقدنا أن ثمة تقاسم قار من حيث تأسيس الأدب كإبداع وكفن جمالي خادم للإنسانية كافة ،فحواه إن الشعر/القصيدة في نقائها وظروف نشأتها وأصالتها كجنس إبداعي _تدخل ضمن مجهود الثقافة العربية، من بين الثقافات ،وإن الرواية والمسرح جهد يسجل للإغريق وأوروبا والأمم الأخرى.

*باحث وأكاديمي مختص في النقد الأدبي الحديث، جامعة عدن.