آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-09:54م

ادب وشعر


أمين معلوف: صراع الهوية والكتابة فوق الكتابة

أمين معلوف: صراع الهوية والكتابة فوق الكتابة

الخميس - 25 أكتوبر 2018 - 03:03 م بتوقيت عدن

- تحديث/ غسان علي عثمان:

أن ينتهي الجدل حول علاقة الرواية بالتاريخ؟ الإجابة في ظننا تظل مُعلقة، ذلك فإن أكثر الآراء تنصرف ناحية صعوبة فك الاشتباك بين ما هو تاريخي وما هو سردي تخييلي، ولعل التنظيرات المُؤسسة لهذا الفهم تعود إلى مفهوم الرواية التاريخية الذي قُعّد في كتابات أولى في الأدب الإنجليزي وقوفاً عند وليم شكسبير وأعماله التي تناولت بالسرد فترات تاريخية، وغيره أمثال فكتور هوجو في فرنسا وتولستوي في روسيا، بل حتى ماركيز له نصيب في الاتكاء على اليومي والتاريخي في بعض أعماله، وفي الأدب العربي كذلك الأمثلة كثيرة، ولم يكن للتخييل، والتخييل الذاتي بالأساس من مساحة كما هو الحال الآن في بعض الأعمال التي تستند إلى التاريخ ولحظاته، ولو أردنا تلخيص جملة الجدل في هذه المسألة فإن البعض يرى أن الرواية التاريخية هي العمل على إعادة بناء النص طمعاً في تناول ما تم إغفاله أو سقط من يد المؤرخ، أو حتى كان من غير المفكر فيه، وهذا الفريق يستعد بكامل عدته الإبداعية لكتابة تاريخ التاريخ، أو تأريخ ما لم يؤرخ له، إنه يستلهم لحظات تاريخية يعمل على تركيبها من جديد، وهذا التركيب المقترح يهرب باستمرار من فخ الوقوع في التدوين وهو شغل المؤرخ، وحقيقة من الصعب الوصول إلى نقطة مريحة لفك العلاقة بين ما هو إبداعي وما هو تاريخي، ولذا فإننا نعتقد بسلامة الذهاب ناحية دراسة كل عمل على حدا، وذلك ما سيعجل بالوصول إلى نتائج تراكمية تسمح في وقت ما أن نحل هذه المسألة. وقد لا نذهب بعيداً إن قلنا بأن أعمال الروائي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف هي التي انقذت الرواية من شرك التأريخ والأرشفة لتحول السرد إلى كتابة جديدة، وهذا بسبب براعة وجدة معلوف التي أكثر ما تتبدى في عمله (ليون الإفريقي)، وهذا ما نكتبه هنا لصالح هذه القضية.

إن الأديب والكاتب والصحفي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف المولود في ٢٥ فبراير ١٩٤٩م يحتل مكاناً بارزاً في سماء الكتابة الأدبية عالمياً وعربياً، إذ تتخذ أعماله من الذاكرة الحرجة أصولها ومعالم سردها، فمعلوف يحترف إعادة كتابة التاريخ روائياً، وهو إذ يفعل ذلك لا يقوم بعمليات الرصد والإشارة كما هي في تركيبها التاريخي، بل يعمد بشكل دقيق إلى إعادة الاعتبار للتاريخانية وهي حالة كتابة فوق تاريخية، تستند في الأساس على تاريخ الظاهرة الاجتماعية والفاعلين فيها، ومعلوف الذي عمل بالصحافة حتى العام ١٩٧٥م، أصدر أول أعماله "الحروب الصليبية كما رآها العرب" عام
1983
م، وأعماله ترجمت إلى لغات عديدة، والرجل مهموم بقضية الهوية ولمن يقرأ كتابه (الهويات القاتلة) يقع على ترجمة جديدة لمفهوم الأنا والآخر، بل لم ينس معلوف، ولم يستطع التخلص من عروبته رغم هجرته الباكرة إلى فرنسا واندماجه في المجتمع الأدبي هناك، حتى بات كاتباً فرنسياً بامتياز، وفي ذلك حاز في عام ٢٠١٠م على جائزة أمير أوسترياس عن مجمل أعماله.



(ليون الإفريقي) : صراع الهوية والإنسان الكوني:

إن أعمال الأديب أمين معلوف تشير إلى هذه الخصيصة، صراع الهوية وأنسنة الفاعل الاجتماعي، نجد ذلك في روايته (ليون الإفريقي ١٩٨٤م) وهي تركيب سردي ماتع يتتبع الظاهرة العربية بشكل حثيث، ويضع يده على التحولات التي جرت في البنية الاجتماعية والروحية، وانعكاس ذلك على مجمل أوضاع العرب وثقافتهم، هويتهم ووجودهم الحضاري، إن "حسن الوزّان" بطل هذه الرواية وساردها العليم يقدم لنا بانوراما تاريخية تتكيء نعم على أحداث حقيقية تقع ما بين الأعوام ١٤٨٩م – ١٥٢٧م، وهذا الفترة هي التي بدأت بسقوط الأندلس وحتى نهاية رحلة البطل المعلوفي (ليون)، فشهادة الراوي/البطل تقدم لنا أحوال عدة ومواقف وانعطافات مركزية في الظاهرة، حسن بن محمد الوزّان ويوحنا – ليون دومديتشي المُعمد مسيحياً بيد أحد البابوات، والذي انتهى به المطاف بعد رحلة عجائبية إلى أن يسمى (ليون الإفريقي) نسبة إلى إفريقية وهو الاسم القديم لتونس، والمفارقة تقع أن ابنه الذي ولد في روما عاد بهوية معاكسة وشديدة التباين لمسيرة الرجل، فبات يعرف ب(ابن الرومي) تعبيراً عن صراع الهويات الذي خاضه الوزاّن؛ الوزان الذي يعرف نفسه في الرواية : "ولكنني لست من إفريقية ولا من أوروبة، ولا من بلاد العرب، وأُعرف أيضاً بالغرناطي والفاسي والزّياني، ولكنني لم أصدر عن أي بلد، ولا أي مدينة، ولا أي قبيلة، فأنا بن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعاً" – الرواية صفحة ٩، هذه الهوية المركبة هي روح هذا العمل، هي هوية قاتلة ومحيية في الوقت ذاته، إذ يتعاظم وجود الواحد منها على أنقاض الثانية دون هدمها، ولعل هذا الصراع المكتوم أو المتصالح معه في ثنايا الرواية هو مطلق جاهزيتها في السرد، حسن كان كل شيء، بل لم يكن شيئاً ما، يوماً ما، حسن المسلم والمسيحي واللاديني، هو مثال عظيم لكونية الإنسان، هذه الكونية التي إن رغبت في فض اشتباكها وقعت أسيرة الواقع وصيرورته، لقد تمدد في الكون، كونه وزمانه الثقافي الذي عاش فيه، يقول: "ولسوف تسمع في فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعِبرية واللاتينية والعامية الإيطالية لأن جميع اللغات وكل الصلوات ملك يدي، ولكني لا انتمي إلى أي منها، فأنا لله وللتراب، وإليهما راجع في يوم قريب"- الرواية صفحة ٩.

إن الهوية المركبة جعلت من الوزّان روح عصره، وبيان زمانه، يعصر كل ما يقع عليه وجدانه، يماري، يحتال، يخاتل ويمارس وجوده الواقعي بامتياز، فمنذ ميلاده جرت معركة الهوية، ألم يولد لإمراة تقبع تحت ظل الامتياز الاجتماعي (سيدة حُرة) محكوم عليها بالخضوع لأشراط الطبقة، وبين (أمة) ذكية غنجة مرنة تعرف كيف تغوي زوجها، لتتحقق معادلة الطبقة والعرق، إنها (وردة) المسبية ورغم ذلك ملكت امتيازها الخاص بأن جعلت الأب المسنود بالطبقة أيضاً يتنازل لأجلها، بل كانت النقيض المُر للأم الحرة بنت العم، لقد عبرت عن عبوديتها وهي طليقة قالت: "نحن نساء غرناطة حريتنا عبودية مستترة، وعبوديتنا حرية بارعة" الرواية ص(15). وقالت أيضاً في معنى تنازع العرق والطبقة "كنت حُرة وكانت جارية، ولم يكن الصراع متكافئاً. كان بوسعها أن تستخدم على هواها جميع أسلحة الغواية، وأن تخرج من دون حجاب، وأن تغني وترقص، وتصب الخمر، وتغمز بعينها وتتعرى، في حين كان لزاماً عليّ بحكم وضعي ألا أتخلى عن وقاري، وألا أُظهِر كذلك أي اهتمامات بملذات أبيك، وكان يدعوني (بنت العم)".

إن الصراع بين (وردة وسلمى) في أصله صراع عميق الجذور في الهوية العربية، فلو قلبنا دفتر أحوال الدولة العباسية في ثلثها الأول ما فاتنا الوقوع على مباراة الحشمة والتبذل في قصور الخلفاء وذوي الشأن، كان هذا من تجليات الانفتاح الثقافي الذي وجدته الدولة العباسية وارثة الإمبراطورية الفارسية، ومتخذة أدابها بديلاً عن تراث مفكك لا يحمل طقوس الملكية والبرتوكولات الطبقية، هو التراث العربي المجرد، إنه عالم الأعرابي (صانع اللغة) كما يسميه المفكر المغربي محمد عابد الجابري، ورغم أن هذا الصراع لم يستمر طويلاً بل نجد أن ثمة تضامن جرى بين السيدتين وبينهما (سارة) اليهودية المبرقشة صاحبت الخبرات الروحية وسمسار الطالع، هذه السيدة لعبت دور الوسيط الأمين بين (سلمى وزوجها)، والتضامن المقصود هذه المرة حدث بموجب وضعية المرأة حُرة كانت أم عبدة، قانون المواضعة وغياب التكافؤ، فالنساء في سلم القيم العربية كانوا يقبعون مع الطيبات والملذات أي هن عنصر استهلاكي محض، لكن ما اشتغل عليه معلوف أنه بيّن لنا ذكورية فجة حدت بالأب أن يعقد سيركاً فحولياً يجمع فيه السيدتين ليعرض بضاعته من الأبناء في ثلاجة بشرية دلالة على الفحولة وانتظار المستقبل بالعِزة والمكانة.

أما المدينة فقد كانت تُحتَضر في صمت، كانت تتآكل من أطرافها بفضل الدسائس والانهيارات، بل وحتى التوقع، هذه المدينة التي ولدت فيها (ليون) باشرته بالطرد والعُزلة، ففي ثنايا السقوط تتغرب العائلة، وتذهب إلى فاس المدينة التي تعاني هي الأخرى من صراع هوياتي مرير، فيها اليهودي والعربي والمسيحي، فيها أديان الله تعيش مع بعضها دون علاقة روحية أو سلام، بل كل طرف يتمسك بتناقضاته لا يُخرجها إلا عند الأزمات.

إن الهوية التي تقوم الرواية عليها هوية متوحشة، مثلها حسن الوزان في كل مكان ذهب إليه، في فاس اكتشف ملكاته في التدين الفطري، وكذلك اختار اصدقائه الدائمين، حسن في كل مكان، في إفريقيا جنوب الصحراء كانت الممالك السوداء هي التي أهدته عروسه المختارة، هي من اكتشف فيها نفسه، إنسان يحب ويُعشق، ورغم أنها مسترقة إلا أن الرجل كان خلواً في خصيصة نفسه من إثم الاسترقاق، فعاملها معاملة جيدة، لم يجر أن عنّفها أو حتى جرح مشاعرها، هذه السيدة المُهداة ستكون عربون حياته الجديدة وهو في مهربه الدائم، إن هويتها كذلك سوداء جميلة يصح وصفها بالهوية الاختزالية، إذ رغم استرقاقها إلا أنها كانت تحتفظ بالوزان تحت رحمة أنوثتها، إنها رهينة تومبكتو المستعادة في يد حسن الوزّان، رهينتها الحرة في بيت الرجل، هذه المملكة التي تسمى جوهرة الصحراء، والتي توالى على حكمها السودان السونغاي ثم إمبراطورية الفولاني ثم الامبراطورية الإسلامية المغربية من السعديين، كانت صورة مخبأة من حضارة العرب في إفريقيا، حضارتهم التي أكلتها الفتن في حواضر المشرق، إذ احتفظت بروح الحضارة العربية في أوج نفوذها، وكانت بحق المدينة الثقافية الكبرى في ذلك العهد، إن تومبكتو التي قدمها لنا معلوف بهية ونضرة وقوية كانت آخر معاقل العروبة الثقافية حينها.



النقيض وهيمنة التراث على العقل العربي:

"أبي خمر" نقيض الشيخ "استغفر الله" ، هنا كذلك يأخذنا معلوف إلى صراع العلم والدين في الثقافة العربية، الدين بمعناه الفطري التجشئي في خطب الشيخ استغفر الله ، بل حتى الاسم يحمل دلالة ماكرة وذكية، فكل شيء حرام طالما لا نجد له مماثل في التراث العربي وعوائد المسلمين، هي العقلية المتحجرة التي ترفض كل جديداً ظناً بأن الأمر قد حسم، وكل شيء مُعد وجاهز للاستعمال، وما المصيبة التي تطرأ إلا بسبب الخروج عن (الكتالوج) المُحدد لكل شيء باستقامة افتراضية مثلها سلوك وخطب الشيخ استغفر الله، أما الطبيب والدوائي أبي خمر فهو صورة بن رشدية (نسبة للوليد بن رشد) تقدم لنا طبيعة الصراع في الإندلس، بين مدرستين مثلت الأولى انعطافات الوليد بن رشد ومن سبقه من ابن طفيل وبن باجه في الأخذ بعلوم الأوائل، وبين بن مسرة وبن سبعين وبقية المتصوفة العرفانيين، هو الصراع بين العقل والنقل، بين العلم والدين، ومن ترجماته الراهنة بين العلمانية والإسلامية، وليس بالضرورة أن تتطابق هذه الفرضيات إذ نستخدمها بشكل تقريبي ونسبي للغاية.

أما في مصر كان المماليك يلفظون آخر انفاسهم والترك يولوحون برايات النصر الجديد، فهذا وقتهم يستلمون فيه الزمن الثقافي العربي الإسلامي من يد المماليك، وقد أبدع معلوف في تصوير حالة القاهرة وبقية المدن المصرية التي زارها بطله، فهي لا تكن الكثير من الحب للمماليك، لكن ذلك لم يمنعهم من الإعجاب ببطولة طومان باي وهو ينافح لأجل بقاء سيرة دولته في أهم منارات الشرق في مصر. وفي تركيا التي حمل ليون معه خبراته المتراكمة يقدم لنا معلوف الإمبراطورية وهي تتمدد وتعيد بناء الشرق من جديد. إن الانتقال الذي جرى في مصر بعد سلسلة من التحولات في الذات العربية من الفاطميين وبعدهم الأيوبيين ثم المماليك وآخرهم الأتراك بقيادة سليم الأول، تكشف لنا عن غياب فكرة الشعب في الثقافة العربية، إن كل ما دونه المؤرخون اتصل فقط بالجانب السلطاني، وغابت كل ملامح الأمة، أما معلوف فقد آلى على نفسه بالعمل مؤرخاً إنسانوياً يعلو بدرسه السردي على معنى التاريخ الرسمي للحضارة العربية، وهذا هو عمل الروائي أن يؤرخ للمخفي والمقموع واللامفكر فيه، نجد هذه الخصيصة في كل بقعة زارها معلوف بسارده العليم (حسن الوزان)، غرناطة مدينة التناقضات والعجائب، تتعايش فيها الطبقات مُهيمنُ عليها بسلاح السلطان المدعوم بالنياشين الدينية أميراً للمؤمنين تارة، وحامي حمى الإسلام والمسلمين في ثغره الأوروبي، فاس تتكاثر فوق نفسها فيها الديني المغلف بالتصوف الصموت، وفيها الطوائف تحتمي بنفسها كل بمذهبه في الظاهرة الاجتماعية، وفيها المنبوذون وقطاع الطرق وأصحاب المزاج واللهو.

أما مصر المكثفة الإنسانية، حالة خاصة في درسنا الثقافي، بلد تستطيع فيه التناقضات أن تعقد تسويتها الخاصة، لا مجال للعصبية إلا بقدر الانتماء إلى الطبقة، ولذا فقد حاربت مع طوماي باي ولم تحزن كثيراً لمقتله البطولي، إن مشهد إعدام طومان باي قد ورد في الرواية كما تقدمه الكتب التاريخية، لكن الحرفة عند معلوف تبدت في بيان الفضاء الذي جرت فيه المقتلة، يقولك: "تعالت آلاف الغمغمات وكأنها دوي يزداد زلزلة في كل لحظة: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.." ... وكان لفظ "آمين صرخة ممدودة خانقة ثائرة، ثم لا شيء، وران الصمت، وبدأ العثمانيون أنفسهم مشدوهين، وكان طومان باي هو الذي حركهم بقوله: "أيها الجلاد، قم بعملك!"- الرواية صفحة ٣٤٧.

حسن الوزان هو من وشى بنفسه واستسلم للاختطاف، فصديقه عباد والذي كان يتولى نقله إلى تونس مع نور زوجته وابنها بايزيد، فإن معلوف أراد أن يعيد علينا درس الاستشراق لإدوارد سعيد، فالشرق ينبغي لها إلا يغادر الإطار، وأن يظل مكمن الطرافة والغرائب، هو البازار المفتوح لكل عجيبة ولكل اختلاف، هنا يمسك معلوف بذكاء شديد بأداته السردية، فبعد استراحة قصيرة بين الصديقين وهما يهمان بالسفر، تحدث عملية الاختطاف: "وما هي إلا ساعة حتى خرجنا بدورنا مرحين شبعانين سعيدين بالمشي على طول الشاطئ فوق الرمل المبلول وتحت قمر متألق. وما كدنا نجتاز ببضعة من أكواخ الصيادين حتى رأينا فجأة ظلالاً تمتد أمامنا.." الرواية صفحة 357 – وهنا جرت عملية الاختطاف، إن دلالة اختطاف الوزان تحمل في طياتها كذلك تجليات صراع الهوية، هذا العربي غير العربي، المسلم يُذهب به إلى معقل الحضارة الغربية ليلعب دوراً جديداً، سفيراً تارة ومحتفى به بحنو أبوي عند البابا، ينقل لنا من هناك تناقضات الحضارة الغربية وهي تأكل نفسها كذلك بسبب من حروب دينية عمادها اختلاف المذهب، فلوثر الثائر في ألمانيا يسعى لتهديم المعبد من جديد بدعوى الهرطقة والخروج عن جادة السيد المسيح في تقدير لوثر المصلح الفانتازي، والممثل في تلاميذه الذي درسوا على يد الوزّان نفسه. روما تحتضر ومطلوب من ساردنا العليم أن يقدم خدماته هذه المرة من الضفة الأخرى، هذه السفارات المتعددة لحسن الوزان يربط بينها شيء واحد هو واقعيته الشديدة مع وظائفية واحدة لا تحمل أي هم رسالي، وهكذا هو الإنسان الكوني يعمل في ظل فضاء غير محدود، وبإمكانات تترقب الطارئ من النجاحات والمؤقت فيها.

ويتم اختبار الوزان، فالرجل كلما ولى وجهه وقلبه احتقب زمناً ثقافياً كاملاً أمانة في عنقه ولم يخيب ظن أحد، ألم تكن نهاية الأتراك المتوقعة بيد بايزيد، يقول: "سوف يزعزع بايزيد بن علاء الدين عرش العثمانيين في يوم من الأيام. فهو وحده القادر، بوصفه آخر الأحياء من سلالته، على إثارة قبائل الأناضول، وهو وحده القادر أن يجمع حوله المماليك الجراكسة والصفويين الفرس للقضاء على السلطان التركي المعظم. هو وحده. إلا إذا خنقه جواسيس السلطان سليم"- الرواية صفحة 312.

من منفى إلى آخر هي روح هذه الرحلة الوزانية، فحسن بن محمد الوزان يعود من جديد إلى جذوره المصنوعة، ولكن هذه المرة في معيته مقابله الهوياتي ابنه، وفي وصيته له تنتهي الرحلة المعقدة والمجدولة في رأس الصراع الهويوي ورمزه المؤنسن حسن الوزان، يقول له هاك خلاصة المعنى من المعركة الوجودية التي خضتها، وأنت بني تحمل نقيضي الذي أتصالح معه ببقايا واقعيتي التي أحملها سلاحاً ضد الأزمات والمكاره، "مرة جديدة يا بني يحملني هذا البحر الشاهد على أحوال التيه التي قاسيت منها، وهو الذي يحملك اليوم إلى منفاك الأول، لقد كنت في روما "ابن الإفريقي"، وسوف تكون في إفريقية "بن الرومي"، وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك، فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور! فمسلماً كنت أو يهودياً أو نصرانياً عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك" الرواية صفحة 451، هكذا كانت نهاية الإنسان الكوني حسن بن محمد الوزان.

إن رحلة ليون الإفريقي هي رحلة العقل العربي بتناقضاته وإشكالياته، أزماته وانكساراته، واقعيته وسحريته، رحلة هي التعبير الأسمى هي صراع الهوية في الثقافة العربية، صراع بدأ منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها جيوش المسلمين تفتح العالم وتعيد بنائه، تركبه وفق إرادات متعارضة، والوزّان صاحبنا خاض كل حروبه السلمية وغيرها، بسلاح واحد وهو السرد للذات، إن مساحة التخييل الذاتي في هذا العمل واسعة ومثيرة للإعجاب حقيقة، إذ لم يقع أمين معلوف في فخ الكتابة التاريخية بنمطها المباشر، بل أن شغله السردي هو كتابة فوق الكتابة، إذ اتخذ من اللحظة التاريخية المشتغل عليها في كثير من المرويات، اتخذها حالة جديدة، لقد استطاع أمين معلوف أن يحل المشكلة القائم، المشكل النقدي الكلاسيكي في كثيره حول علاقة الرواية بالأدب، إنه التخييل الذي يهتم بحياة الناس العاديين، فالعلاقة التي ابتناها أمين معلوف، وقام بتركيبها بشكل سردي فريد تجيب عن التساؤل، وإجابته واضحة وهي "أن الأدب لا يعدو كونه حالة كتابة فوق الكتابة".

غسان علي عثمان/ كاتب سوداني صدر له: الهوية السودانية وتفكيك المقولات الفاسدة – ديكور العويل في معنى السيرة، وغيرها من المقالات في النقد والأدب والتاريخ.