آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-09:54م

ادب وشعر


كريستيانا الفاتنة

كريستيانا الفاتنة

الخميس - 25 أكتوبر 2018 - 05:40 م بتوقيت عدن

- تحديث/ ناصر الوليدي:


لم أكن أتصور أن الأمور ستتجه إلى هذا النحو،كنت أظن أن كريستانا تمارس نوعاً من المتعة الصباحية والمسائية ، فلأكن صادقاً أنا أيضاً مع نفسي ، لقد كانت تلك الرياضة تسعدني ، صحيح إني لم أكن أنا المقصود من زيارات كريستانا إلى باحات كلية الاقتصاد في جامعة وارسو ، إلّا أنَّ ضؤ الشمس التي تصبّحنا كل يوم باحثة عن صديقي محمد السوداني ، تترك في قلبي آثاراً مدهشة ، جميلة جداً هي كريستانا ، طويلة بيضاء ذات شعر ذهبي يتساقط على وجهها الفاتن ويتمايل على كتفيها العاريين ، كنت أنا وبعض زملائي الدارسين في الجامعة ننتظر زيارات الفتاة كريستانا كل صباح قبل أن نذهب إلى قاعات الدراسة ، لقد أصبحت بالنسبة لنا كقهوة الصباح التي افتقدناها في بولندا و التي تعودنا عليها كعرب في بلادنا ، لكن للحقيقة لم تكن كريستانا كالقهوة العربية ، بل هي الخمرة البولندية التي أدمنا عليها منذ وصولنا إلى هذه البلاد التي لا حدود للمتعة فيها ،همس أحد الزملاء المصريين و كريستانا تتبختر بمشيتها الطاؤوسية : " ما كان ينبغي لهذه الحورية أن تشغل نفسها بالعمل في الكنيسة" وتضيع أوقاتها في تنصير صاحبنا محمد السوداني " تسمّرت أعيننا في وجهها الجميل وهي تقترب منا وتسألنا عن محمد السوداني ، تسابقنا في إجابتها فكل منا يريد أن يحظى بنغمة موسيقية تخصه بها كريستانا فتسكبها في أذنيه كأنها السحر ،علمت منا أن محمداً مريض وقد تركناه في السكن المجاور للكلية والقريب من كنيستها ومنظمتها ، يالها من مجنونة ستذهب لتزوره وتسأل عنه ، أما وجدت غير هذا السوداني المعقَّد لتستقطبه إلى المسيحية ، انطلقتْ إلى الخارج ونظراتنا تتبعها في شبه ذهول . قال أحد الزملاء السوريين،وبقية من سكر الليلة الماضية تغالب رأسه : " مالها لا تدعوني أنا إلى المسيحية فأنا لا دين لي إلا الجمال ؟ لو دعتني لعبادتها لأجبتها !" الحقيقة أني أنا نفسي شغلني هذا الموضوع وأثار فضولي وعجبي . مالذي جعل كريستانا تشغل نفسها بمحمد السوداني الذي يعيش في عالمه ؟، فهو مشغول بدراسته ،مابين البحث والمذاكرة والمكتبة ثم إنه الوحيد في السكن الجامعي الذي يمارس شعائر دينه، أراه في أحيان كثيرة جالساً على سجادة جلبها معه من السودان وهو يدعو الله ، كنت أرمقه أحياناً وهو يركع ويسجد ويبكي وربما يقرأ القران ، والعجيب أيضاً إن أجواء وارسو الجميلة وحدائقها الرائعة وطرقها النظيفة كانت تستهويه ويستمتع بها استمتاع الفنان بلوحته، ، وربما يذهب إلى المتاحف والمتنزهات لكنه يقف هنا ،أما أن يعاقر الخمر أو أن تكون له صديقات مثلنا فهذا شئ مرعب بالنسبة له ، كنت أقول له : يا محمد ألا ترى هذا الجمال في هذه المدينة الحرة ألا تفتنك هذه الغزلان التي تلعب في الحدائق والطرقات، يا محمد أنت في وارسو ولست في الخرطوم ، لا شئ هنا ممنوع ؟ فكان كثيراً ما يقول لي : يا جمال ، إن الجمال بداخلنا ، يسكن في ذواتنا وما على الأرض ما هو إلا انعكاس لموقفنا النفسي ، علينا أن نحيي الجمال في قلوبنا ونزيل عنها الغبار الذي يحرفها عن رؤية الجمال الحقيقي ؟ ــ دع عنك هذا، وقل لي يا محمد مالذي تريده منك كريستانا ، إنها تطاردك في الليل و النهار في الكلية في السكن في الطريق وأنت معرض عنها ؟ ألا تشعر بها ؟ أليس لك عواطف ؟ لم يجبني لكنه ضحك بشفتيه وعينيه وكل دائرة وجهه ، وتحرك جسده مع ضحكته ، إني أعرفه سوداني طيب القلب خفيف الروح ، كمعظم السودانيين ، صفاء قلوبهم ماهو إلا صورة لصفاء طبيعة بلادهم ، النيل والحقول والغابات والحيوانات البرية تركت آثارها على شخصياتهم ، ما أدري هل العجيب في الأمر هو وضع محمد؟ أم وضع كريستانا الفاتنة ، هي تريد محمداً ومحمد لا يريدها ، الغريب إنَّ الاثنين متدينان، هي تقضي معظم وقتها في الكنيسة ، وتعمل موظفة في المنظمة التابعة للكنيسة القريبة منا أيضاً ، وهو شاب متدين ومثابر، دائما يحصل على المركز الأول في دفعته ، هي تلح عليه ليعتنق المسيحية وهو عازف عنها مشغول بشعائره ودراسته ، كم مرة جاءت تكلم محمداً عن المسيح والرب والغفران والجنة الموعودة ، كنت أنا أصغي لهرطقتها، ومحمد ينكس رأسه إلى الأرض يستمع إليها ولا يرفع بصره نحوها ، رغم إني لا أفهم كثيراً عن الدين إلا إني أحاول أن أثير بعض التساؤلات ،لا لكي أعرف إجابتها عن تساؤلاتي ، بل لأستمتع بالحديث، معها وهي تخاطب محمدا وتناقشني . لقد ذهبت كريستانا إلى المكان الخطأ لقد تكسرت سهامها على جدران قلب محمد وعقله ، لقد قهرها صمته وسكونه وطمأنينة نفسه ، لكنها مصرّة على إنجاز مهمتها ، تحمل معها الهدايا والكتب والروايات والصوتيات ولفائف من الورق ، تعرض خدماتها على محمد حتى يجيبها ، وكأنها تخاطب جثة هامدة،وهو يخاطبها بصوت ضعيف هادئ : " دعيني وشأني يا كريستانا ، لقد جئت إلى هنا لكي أدرس فأعود إلى بلدي اقتصادياً ناجحاً يساهم في تنمية وترقية بلده النامي الفقير، وهي تتودد إليه بصوت ناعم : " لا يمنع ذلك يا محمد سيساعدك الرب في مهمتك إن أنت اعتنقت المسيحية ، وستساعدك منظمتنا هناك في بلدك وتساهم معك في تحقيق حلمك لبلدك الذي يعاني من الفقر الروحي والفقر التنموي بلادكم غنية لا ينقصكم إلا إن تمدوا أيديكم إلينا لنتعاون معاً في بنا حضارة الرب يسوع . لم أفهم محمداً آنذاك حين قال لها : ولكنا نريد حضارة رب يسوع لا الرب يسوع ، وهي أيضاً لم تفهم ، استأذنها بالانصراف وانسل من أمامها بلطفه المعتاد ، لم أكن في دفعته إلا إني بحكم سكني معه في نفس الغرفة وتقاربنا في السن كنت صديقه الحميم ، أسمعه أحياناً يقول : يا جمال إنَّ قلبك جوهرة نفيسة إلا إنه يحتاج إلى تنقية ، فكنت أجيبه : يا محمد الجوهرة النفيسة بين يديك فلا تضيعها ، أنها لؤلؤة ساحرة . فلا يزيدني على ابتسامةٍ من عينيه البريئتين . مالذي جـــدَّ؟ تفاقمت حالة كريستانا وأكثرت الترداد على محمد، وقد لمسنا ذلك بوضوح ، مرت شهران على هذا الوضع الجديد ،إلى أن حصل ما حصل . عدت ذات ليلة إلى السكن متأخراً فوجدت محمداً يحزم أمتعته ويستعد للسفر ونحن نقترب من موعد الامتحانات . ــ محمد هل أنت مسافر ؟ ليس الوقت الآن وقت سفر ؟ ـــ كريستانا يا جمال هي السبب . ــ كيف ذاك ؟ ـــ " لقد جاءتني بالأمس فعرضت علي عرضاً أخافني ،وخشيت منها على نفسي ، لقد جاءتني إلى الكلية فقالت : "يا محمد اعتنق المسيحية وستمنح ثلاث مزايا ، ستعطى الجنسية البولندية ، وستعمل معنا في المنظمة براتب كبير ، والثالثة هي أعذب عندي وعندك من الأوليين وهو أن أكون أنا زوجتك وكم يسعدني ذلك" . لقد قررت السفر ولو لمدة شهر أو أكثر لعلها تنساني وتصرف النظر عني" . سافر محمد ولكنها لم تمض سوى بضعة أيام حتى عاد ، لعله لم يسافر ، قد يكون ذهب إلى مدينة أخرى في بولندا لعدة أيام ، تساءلت في نفسي حين رأيته ، لكنه فاجأني بتأكيده لي أنه سافر وعاد سريعاً لأمر حدث . قال محمد : سافرت إلى السودان ، ولم تمض إلا يومان حتى وقع لي أمر عجيب. ـــ قل، خيرٌ إن شاء الله مالذي حدث ؟ ـــ آويت إلى فراشي ذات ليلة على سطح بيتي تحت نجوم سماء قريتي على ضفة النيل ، غلبني النوم ، فرأيت في المنام أن القيامة قد قامت وإذا الناس فريقان ، في صفين طويلين صف يتجه إلى الجنة وكنت أنا أسير في هذا الطابور، وصف يتجه إلى النار، ورأيت كريستانا واقفة في معهم ، كنت أخفي وجهي عنها ، لا يزال يطاردني هاجس متابعتها لي . ومضى زمن والصفوف تسير كلٌ إلى وجهته ، وفجأة تلتفت كريستانا فتراني، فتناديني بأعلى صوت "يا محمد " ثم ترفع رأسها إلى السماء باكية فتقول :" ياالله ياالله ياالله، أشكو إليك هذا السوداني ، كم دعوته إلى المسيحية ولم يدعني يوماً إلى الإسلام وها أنا اتجه إلى النار " . قمت من نومي مذعوراً فقررت السفر، ذهبت إلى الخطوط السودانية فوجدتها مزدحمة فسافرت عبر شركة ألمانية خاصة ، ومن المطار اتجهت مباشرة إلى المنظمة لأبحث عن كريستانا ، وجدت عجوزاً هناك فسألتها عن كريستانا ؟ انهمرت عيناها بالدموع ثم قالت :" أنا آسفة يا بني ، لقد ماتت كريستانا منذ يومين بحادث سير ، لقد كانت تردد اسمك كثيراً قبل موتها وتسأل عنك وتود لو تراك لقد ذهبت هنااااااك إلى العلياء .