آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-09:54م

ادب وشعر


المقامة الصنعانية

المقامة الصنعانية

السبت - 27 أكتوبر 2018 - 11:53 ص بتوقيت عدن

- تحديث/ وليد كساب:


حدَّثنا عامرُ بنُ محتاسٍ قال:
طوَّحت بنا طوائحُ الزمنٍ، فألقت بنا حيث بلاد اليمن، وبينما نحن نزلاء صنعاء، دُعينا إلى جلسة سَمَرٍ وشُواء، فصحِبَنا بعض الأكارم والأصفياء، وأنزلونا واديًا يُقال له "ظَهْر"، وهو من مرابع الحُسن وأعاجيب الدَّهر، يحرسُه قصرٌ فريدٌ يُعرف بـ "دارِ الحَجَر"؛ فاكتفينا منه بالرؤية والنَّظَر، إذْ كان بابُه قد أُغلق، والناس في وصفه بين معتدلٍ ومُغرِق، فقدْ نُسجت حوله الأساطير، ورُوي في شأنه ما له اللُّبَّ يستطير.
يقول ابن محتاس:
ثم إنهم شرعوا في ذبح الشياه وسلخها، وتنْضيدِ اللحوم وشَيِّها، وظلَّ بعض الأقران يجمعون الحطب، دون فتورٍ ولا نَصَب، وراح بعضهم يحفَر الأخاديد؛ فقلت: سبحان من يُبدئ ويُعيد، ورُحت أتلو: ((قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود...))؛ قالوا: نشدناك الله، يا عبد الله؛ هلا كففتَ عن حديث التَّشريد، وعاونتنا ولو في التَّـــــثْريد؛ فالليلة ليلة الطعام، فهلا راعيتَ يا هذا المَقام؟!
يقول عامر:
وتظاهر على الطهي كبارُهم والصِّغار، وبالغوا في نثر التوابل والبَهَار، وارتفع منهم الصياح والزئير، وعلا الشهيق والزفير، كأنما قد عادوا للتوِّ من مجاعة، فما لهم على الصبر استطاعة، وبلغ مني الجوع مبلغ العطش من جند طالوت، فاستجرت طالبًا الرحموت؛ ورُحت ألتمسُ من أحدهم رُقاقة؛ فنظر إليَّ دَهِشًا وضحك في صفاقة؛ قلتُ: فما أضحكَ -يا رَعَاكَ الله- أسنَانك؟! وفَرَجَ منك الفكَّ وأخرج لسانَك؟! قال: خرجنا لننعم بالزربيان والفَحْسَة وأصناف الطُّعوم، وأنت تطلب الرُّقاق وتدَعُ سيد اللحوم؟! أتريد يا ذَا تكديرَ صفونا، وتعكيرَ ليلتنا وتغيير مِزاجنا؟! قلتُ: حاشا لله مُسيِّر الفَلَك الدَّوَّار، ومُكوِّر الليل على النَّهار، وهل يملكُ مثلي إلا مراعاةَ السياق والحال، وأكل اللحم ولو ساءَ المآل؟!
يقول عامر بن محتاس:
وزوَّرتُ في نفسي أن آكل مما يأكلون، وأشرب مما يشربون، أليست بطني مثل هذه البطون؟! وجلستُ أنتظرُ فراغَهم، وأرجو إسراعَهم، وأنا أدورُ دورانَ الحائِم، وأسيحُ سَيَحَانَ الهائم، وإنَّ بطني لتَئِنُّ من رائحة الشِّواء، وتخلو من كلِّ شيءٍ إلا الهواء، ووُضع الطعام فتكأكأ عليه الجمع، فبكيتُ حينها وهَمَع مِنِّي الدَّمع؛ فصاح القوم: ما لك يا هذا وما يُبكيك؟! هلا تركتَ البكاء وأكلتَ ما يُبقيك؟! قلتُ: يا هؤلاء دعوني فما أُصبتم مُصيبتي، ولا ابتُليتم بمثل قُولُوني ومَعِدَتي؛ فرُبَّ أَكْلةٍ آذتِ الآكِل، وحَرَمَتهُ غيرها من المآكل؛ فاسألوا الله المعافاة من الأمراض، وما صاحبها من الأعراض، وما أغنى المرءَ بتمام صحته وعافيته، وأفقرَهُ إلى خالقه والآخذ بناصيته، قالوا: ألا تلتمس بعض العلاج، فقد أذهبتَ عنَّا الابتهاج؟ قُلتُ: لقد -والله- نشدتُه في شتى الأصقاع، وارتحلتُ إلى كثيرٍ من البقاع، وتناولتُ من الأعشاب ما لو زُرع في صحراءَ لاخضرَّت، ولو شُربَ لاحمرَّت من هَوْلِه الوجوه واكفهرَّت، وابتلعتُ أقراصًا تكفي بناء بيتٍ مشيد، حتى امتلأت المَعِدَة بالصَّديد، قالوا: يا هذا دعك من حديث القُوُلون، وأقبل على اللحم ولا تخش الدُّهون؛ فقد نضج في التَّنُّور، حتى فار دَسَمُه خارج القُدُور، فأجمِلْ بالطبخ والشُّواء، وما صنعنا من الأُرزِ والحِساء!
يقول ابن محتاس:
ثمَّ إنَّ القوم ظلُّوا يساومونني وأنا أتمنَّع، وإلى صراخ قولوني أسَّمَّع؛ فقلتُ: بوركتم من أهل كرمٍ وإحسان، تُكرمون الوافد وتُقرُون الضِّيفان، ولكُم –والله- كلُّ التجلَّة؛ لكني معتلٌ بكل حروف العِلَّة، وقد ورثتُ -فيما ورثتُ- عن أبي القولون، مضطَّرِبٌ دومًا لا يعرفُ السكون، فلمَّا استيأسوا مني خلصوا نجيًا، فانتبذتُ حينها مكانًا قصيًّا؛ ورضيتُ من المأدبة بالرُّقَاق، وهم يأكلون اللحم يفوح منه السُّمَاق، ورأيت شقيًا خلع من الشَّاة ذراعها؛ فانخلع قلبي وكاد يفرُّ حينها، وتفصَّد جبيني بالعَرَق؛ حتى ظننته ينضَحُ بالمَرَق، وهبَّ أحدهم فأنشبَ أظفاره في صدرها، وأخذ الآخر ببطنها وعنقها؛ وخشيتُ على نفسي من الإغماء، فجعلتُ أضرعُ لربِّ السماء، ورُحت أُنشدُ قول المتنبِّي:
قَليـلٌ عائِـدي سَقِـمٌ فُــؤادي * كَثيرٌ حاسِـدي صَعـبٌ مَرامـي
عَليـلُ الجِسـمِ مُمتَنِـعُ القِـيـامِ * شَديدُ السُكرِ مِـن غَيـرِ المُـدامِ
يَقولُ ليَ الطَبيـبُ أَكَلـتَ شَيئًـا * وَداؤُكَ فـي شَرابِـكَ وَالطَعـامِ
انتهت المقامة القُولُونيَّة
والحمدُ لله ربِّ البريَّة